ادعمنا

نظرية ما بعد الحداثة في العلاقات الدولية - Post-modern theory in IR

في ظل هيمنة التيار السائد بحقل العلاقات الدولية، ممثلًا في الاتجاه العقلاني الوضعي وبخاصة الواقعية الجديدة، ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي مجموعة من المقاربات النقدية، تبلورت في سياق التحولات التي شهدتها السياسة العالمية في محاولة منها لتقويض الأسس الإبستيمولوجية والمعرفية التي تقوم عليها النظريات ذات التوجه الوضعي، وإعداد مراجعة شاملة لحقل العلاقات الدولية.

وتعد نظرية ما بعد الحداثة أحد أهم المقاربات النقدية التي حملت مشروعًا تقويضيًّا قائمًا على مسائلة الافتراضات والمفاهيم التي تبناها أنصار الاتجاه العقلاني وبالضبط النظرية الواقعية الجديدة، وهو ما سيحاول هذا المقال معالجته.

 

1- الخلفية الفكرية والفلسفية لنظرية ما بعد الحداثة:

يجادل روبرت سوان Robert Swan في أنه على الرغم من عدم وجود اتفاق بشأن جذور مصطلح ما بعد الحداثة،فتاريخ استخدامه يعود إلى أواخر القرن 19م، في حين أن هناك من يرى بأن ما بعد الحداثة هي نظرية اجتماعية  تجد أصولها عند مجموعة من الفلاسفة الفرنسيين الذين رفضوا فلسفة الوجودية التي كانت مهيمنة في فرنسا بأواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن العشرين.

هذا ويعد مفهوم ما بعد الحداثة -أو ما بعد البنيوية في بعض الروايات- مفهوما غاية في التعقيد ويثير إشكالات عديدة من منطلق عدم الاتفاق على تعريف شامل، ولكن هناك تعرفيًّا بسيطًا قد يزيل بعض اللبس، قدمه جان - فرانسوا ليوتارد  Jean Francois Lyotard؛ حيث كتب يقول: "أُعرِف ما بعد الحداثة بأنها عدم التصديق بما وراء النصوص السردية (metanarratives)"،
وتعني عبارة "ما وراء النصوص السردية" أنها نظرية تدّعي أن لها أسسًا واضحة للادعاءات المعرفية بمعنى أنها تنطوي على نظرية معرفة تأسيسية (Foundational epistemology).


وقد ظهرت نظرية ما بعد الحداثة أولا في مجال الرسم والتشكيل والعمارة والهندسة المدنية، ثم انتقلت بعد ذلك إلى الفلسفة والأدب والفن والتكنولوجيا وباقي العلوم والمعارف الإنسانية، لتصل إلى حقل العلاقات الدولية في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين.  ولعل أًولى الكتابات عن ما بعد الحداثة في العلاقات الدولية تلك التي نشرت في كتاب "جيمس دیر دیریان" و"مايكل جيه شابيرو" بعنوان "العلاقات بين الدول أو بين النصوص" 989 ، والذي يحتوي على فصول لرواد ما بعد البنيوية مثل ريتشارد كيه أشلي وأربي والكر،   بالإضافة لمجموعة أخرى من رواد ما بعد الحداثة على غرار:  فوك Foucault، ودریدا Derrida، ولاكان Lacan، فرنسوا ليوتار، ليبوفسکی، کریستيفا Kristeva، بارتزberthas، وبودریلار  Baudrillard.

وقد جاءت نظرية ما بعد الحداثة كرد فعل للتقليد المهيمن المرتبط بالاتجاه الوضعي وخاصة الواقعية الجديدة؛ وذلك من منطلق أنها تتبنى أطر فكرية جامدة ولا تتقبل فكرة التغيير، حيث يهتم أنصار ما بعد الحداثة بدراسة إشكالية السيادة ومفهوم الفوضى الدولية وكذا محاولة تجاوز مفهوم السيادة نحو بارادايم الحكومة العالمية.

 

2- أسس نظرية ما بعد الحداثة:

تعد نظرية ما بعد الحداثة من بين الاتجاهات النقدية التي ظهرت في سياق نهاية الحرب الباردة ضمن ما يسمى بنظريات الاتجاه المابعد الوضعي، والتي انصب تركيزها على هدف رئيسي وهو تقويض مسلمات الاتجاه الوضعي العقلاني.

و قد لخص بحث "جمال حمداوي" مرتكزات فكر ما بعد الحداثة في 9 نقاط أساسية يمكن تلخيصها كما يلي:

- التقويض: من خلال تقويض أسس الفكر الغربي.

- التشكيك: من خلال التشكيك في إمكانية الوصول إلى المعرفة اليقينية.

- العدمية: من خلال كونها عدمية وفوضوية ولا تقدم بدائل علمية وواقعية.

- التفكك واللاانسجام: عكس منطق الحداثة؛ حيث تدعو ما بعد الحداثة إلى الاختلاف واللانظام وتفكيك ما هو منظم.

- تفكيك المقولات المركزية الكبرى: خصوصا تلك الثنائيات التي قام عليها الفكر الغربي كالدال والمدلول، الحضور والغياب...

- الانفتاح: عكس الفكر الحداثي؛ حيث ركزت ما بعد الحداثة على الانفتاح كوسيلة للتفاعل والتفاهم والتعايش.

- قوة التحرر: من خلال تحرير الفرد من قهر السلطة الاجتماعية والسياسية وكذا فلسفة المركز.

- ما فوق الحقيقة: من خلال نفي فكرة وجود حقيقة مطلقة.

- التخلص من المعايير والقواعد: يؤكد ميشال فوكو أن النص أو الخطاب متعدد الدلالات والقراءات، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على منهجيات محددة دائما.

 

3- الافتراضات الأساسية لنظرية ما بعد الحداثة:

يستند منظّرو ما بعد الحداثة إلى مجموعة من الافتراضات الأساسية في نقدهم للتيار المهيمن، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

- يجادل ميشال فوكو بفكرة الارتباط القوي بين المعرفة والقوة؛ إذ يعارض بشدة فكرة أن المعرفة ممتنعة ومحصنة ضد طرق عمل القوة، ويؤكد أن القوة تُنتج المعرفة، وكل قوة تحتاج إلى معرفة، وكل معرفة تعتمد أو تتعزز بعلاقات القوة.

- إبستيمولوجيا، يرى أنصار ما بعد الحداثة أن تبني نظرية معرفية تأسيسية مرتبطة بالتوجه الوضعي يثير إشكالات عديدة، والسبب وراء ذلك عدم وجود معرفة موضوعية للعالم، وعدم وجود أساس يمكن من خلاله الدفع بهذه الادعاءات عن الحقيقة إلى مستوى العالمية، وبالتالي فإن الموضوعية التي يدعيها أنصار الواقعية تُكشف أنها تعكس انحيازاتهم وتصوراتهم فقط.

- أن نفي الموضوعية والحيادية وإمكانية الوصول إلى معرفة موثوقة بشأن الحقيقة يجعل ما بعد الحداثيين نسبيين(Relativists)، لاعتقادهم بأنه لا توجد حقائق واضحة، وأن ما هو صحيح أو خطأ يختلف من فرد لآخر ومن مجتمع لآخر، ويجعل منهم مشككين (Scepticists) حينما يرددون فكرة استحالة الوصول إلى حقيقة موضوعية أو عالمية، لأن ما يوجد في العالم هو في النهاية معتمد على "ما يوجد في أذهاننا".

- ميتودولوجيا، سعى أنصار ما بعد الحداثة إلى تقويض أسس المناهج الوضعية، معتبرين إياها متمركزة حول الذات والقيم الغربية، وأنها مناهج إقصائية ترفض التغيير والاختلاف، في مقابل ذلك استخدموا مناهج بديلة كالتأويل أو الهارمونيطيقا والجينيالوجيا والتفكيك والتناص...؛ فمثلا يرى "جاك دريدا" أن العالم يتم إنشاؤه مثل نص من النصوص؛ بمعنی أن تفسير العالم يعكس مفاهيم اللغة ومبانيها، ما يسميه عملية تفاعل النصوص، ولدى "دريدا" طريقتان لكشف هذه التفاعلات النصية هما: التفكيك (deconstrution) والقراءة المزدوجة (double reading)، يستند التفكيك إلى الفكرة التي مفادها أن المفاهيم التي تبدو مستقرة وطبيعية والعلاقات ضمن اللغة هي في الواقع مركبات مصطنعة مرتبة هرميًّا؛ لذا فإن التفكيك هو أسلوب يبيّن كيف أن جميع النظريات والخطابات تعتمد على حالات استقرار مصطنعة، تنتج عن استخدام تضادات تبدو موضوعية وطبيعية ظاهريَّا في اللغة (غني / فقير، جيد/ سيئ، قوي / ضعيف، صحيح /خطأ)، أما القراءة المزدوجة فهي طريقة "دريدا" في إظهار كيف أن عمليات الاستقرار تلك تعمل من خلال إخضاع النص لقراءتين: الأولى هي تكرار للقراءة السائدة لإظهار الكيفية التي تحقق فيها تماسكها، والثانية تشير إلى حالة التوتر الداخلية ضمن نص من النصوص والناجمة عن استخدام ما يبدو أنه عمليات استقرار.

 

4- إسهامات التنظير الما بعد حداثي وحدوده في ميدان العلاقات الدولية:

إن الحديث عن وجود إسهامات كبيرة لنظرية ما بعد الحداثة في مجال العلاقات الدولية يعد أمرًا مبالغًا نوعًا ما، وذلك من منطلق أن تطويرها لتصور بديل في السياسة العالمية لا يزال في مرحلته الأولى، على اعتبار أن اهتمامها الأساسي منصبٌ على نقد وتقويض الأسس الفكرية للتيار المهيمن المرتبط بالمشروع التنويري الغربي القائم على فلسفة وضعية.

وفي العموم يتجسد إسهام ما بعد الحداثة في تفريغ المناهج الوضعية من محتواها والواقعية الجديدة، أبرز مثال على ذلك إذ انتقدوا فكرة التمييز بين الحقيقة والقيمة، الذات والموضوع، وفكرة وجود قوانين موضوعية تحكم السياسة الدولية، ومنه إمكانية الوصول إلى نظرية علمية وعامة في العلاقات الدولية، كما حاولوا تقويض الأساس العلمي الذي تقوم عليه الواقعية الجديدة والمرتبط بالأحادية المنهجية، التي تقتضي اتباع المنهج العلمي كطريق واحد للمعرفة، في مقابل ذلك سعوا لضرورة انفتاح الحقل على التعددية الإبستيمولوجية والنظرية والمنهجية، وأن يعكس ذلك حقيقة التنوع الموجود في الواقع. 

إن ما يبرز في دراسات ما بعد الحداثة وما قدمته من إسهامات هو اهتمامها بما يسمى بالأصوات "المهمشة" "الصامتة" أو"المنسية"؛ وهي الأصوات التي أغفلتها أو تجاهلتها الاتجاهات النظرية التقليدية، وبالتالي تكون قد تحدّت تلك الاتجاهات النظرية التفسيرية، وهو التحدي الذي تَدعم ببروز حركات اجتماعية  وسیاسية عديدة تطالب بإدراج مسألة الهوية ضمن اهتمامات الدارسين في مجال العلاقات الدولية، وقد شكل تنامي الأصوات الهويتية في كثير من الدول الاشتراكية السابقة والجمهوريات السوفيتية المستقلة على إثر الانهيار السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية وفي غيرها من المناطق الأخرى، مثل: الأقاليم الكردية في كل من تركيا والعراق، وهي كلها نماذج تعكس بوادر النجاح الأولى للإطار المفهوماتي - النظري لما بعد الحداثة.

كما سعت من خلال منهجها الجينالوجي لكشف الصلة بين ادعاءات المعرفة وادعاءات القوة السياسية والسلطة، وباستخدام آلية التناص دعت ما بعد الحداثة إلى ضرورة إعطاء اللغة والخطاب دور أساسي في فهم العالم الاجتماعي والواقع، فاللغة لا تعكس الواقع بل الواقع يبنى من خلال استعمال اللغة في مسار لانهائي.

ورغم سعي ما بعد الحداثة لتفكيك وإعادة بناء حقل العلاقات الدولية  وفقا لما يقتضيه الاختلاف والتعدد النظري، فإنها لم تنجح في ذلك، بل ولقيت انتقادات شديدة من طرف الاتجاه المهيمن، ويحاجج "ستيف سميث" في هذا الصدد بأنها ركزت على الجوانب النظرية وأهملت العالم الحقيقي.

كما لقي أنصار ما بعد الحداثة معارضة كبيرة من قبل أنصار التيار الرئيسي في العلاقات الدولية؛ حيث اتهموا بأنهم معْتدون بأنفسهم لاعتبار أنفسهم مصدرا للحقيقة، كما نقدوا نقدا لاذعا من منطلق أن ما يقدمونه هو تخصص علاقات دولية سيئ وثرثرة متعالية، وفُهمت أفكارهم خطأ بأنها مثالية وفلسفية، كم وصفوا بأنهم غير عقلانيين أخلاقيًّا .

كما انتقدت ما بعد الحداثة بكونها تفتقر لمرجعية موحدة؛ حيث وقعت في إشكالية التعددية المفرطة مما يجعل أنطولوجيا العلاقات الدولية مفككة، كما أن اعتمادها على فكرة التقويض والهدم جعلها لا تقدم بديلًا واقعيًّا، ضف إلى ذلك اهتمامها بالجوانب الميتودولوجية وطرح القليل مما يفيد في حقل العلاقات الدولية.

 

في الأخير، فإن نظرية ما بعد الحداثة ورغم الانتقادات التي وجهت لها فقد  حملت مشروعًا نقديًّا حاولت من خلاله تفكيك وإعادة بناء حقل العلاقات الدولية وفقا لما تقتضيه التحولات التي شهدها العالم بعد نهاية الحرب الباردة، مستندة في ذلك إلى مجموعة من الأدوات التأملية في إطار ما يسمى بالتعددية الإبستيمولوجية والنظرية، متجاوزة الطرح التقليدي القائم على فكرة الأحادية المنهجية المرتبطة بالمنهج العلمي، كما استطاعت تقديم فهم أعمق لتلازم ثنائيتي المعرفة والقوة.

 

 

المصادر والمراجع:

بيليس جون وسميث ستيف، عولمة السياسية العالمية، تر: مركز الخليج للأبحاث. الإمارات العربية المتحدة: مركز الخليج للأبحاث، 2004.

بروتشيل سكوت و آخرون ،"ما بعد البنيوية"  في نظريات العلاقات الدولية، تحرير. ماثيو باترسون. القاهرة : المركز القومي للترجمة، 2014.

دان تيم، كوركي ميليا، سميث ستيف. نظريات العلاقات الدولية التخصص والتنوع. تر: ديما الخضرا. قطر: المركز العربي للأبحاث والدراسات، 2016.

سوتش بيتر، و جوانيتا إلياس. أسس العلاقات الدولية. تر: محي الدين حميدي .(سوريا: دار الفردق للطباعة والنشر و التوزيع، 2016)،

جندلي عبد الناصر، "انعكاسات تحولات النظام الدولي لمابعد الحرب الباردة على الاتجاهات النظرية الكبرى للعلاقات الدولية" (رسالة دكتوراه في العلوم السياسية فرع العلاقات الدولية، قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر، 2004/2005).

عديلة محمد الطاهر، " تطور الحقل النظري للعلاقات الدولية: دراسة في المنطلقات والأسس" (رسالة دكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، قسم العلوم السياسية، جامعة الحاج لخضر باتنة 01، 2014/2015).

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia